المسيحيّون الصهاينة وخطر الالتباس!

بقلم: 

 

ظهرت "الصهيونيّة المسيحيّة" قبل ولادة "الصهيونيّة اليهوديّة" بقرنَيْن من الزمن، وهي في الولايات المتّحدة الداعم الأهمّ لتأسيس دولة إسرائيل الكبرى. وقد أطلق مسيحيّو الشرق صرختهم القلقة بسبب الارتباك الحاصل في الوعي و/أو اللاّوعي المسلم، بين المسيحيّين كافّة و"المسيحيّين الصهاينة".

إنّ الصهيونيّة المسيحيّة معتقدٌ يؤمن به الإنجيليّون الأصوليّون الأميركيّون الذين يعتبرون أنّ عودة الشعب اليهوديّ إلى الأرض المقدّسة وتأسيس دولة إسرائيل العام 1948 أمران يتناغمان والنبوءات البيبليّة؛ إذ إنّهم يؤمنون بأنّ "تجمّع" اليهود في إسرائيل وإعادة بناء هيكل أروشليم شرطان مسبقان يمهدان لعودة يسوع إلى الأرض مثل المسيح المنتصر في رؤيا الكتاب المقدّس، وأنّه يجب العمل عليهما من أجل تحقيقهما بأسرع وقت ممكن.

تعود تسمية "الصهيونيّة المسيحيّة" إلى منتصف القرن العشرين، وتشمل تيّارات عديدة مثل "العقيدة الاسترجاعيّة" (Restaurationisme) و"العقيدة التدبيريّة"(Dispensationalisme). وتُجمِع هذه الحركات كلّها على جوهر نصوص الرؤيا في العهد القديم، لا سيّما في أسفار دانيال، وأشعيا، وحزقيال، وكذلك في رؤيا العهد الجديد.
كانت إنجلترا مهد الإيمان بـ"استرجاعيّة اليهود" الذي أبصر النور بين صفوف المتشدّدين الطهوريّين في القرن السابع عشر. وكان أوليفر كرومويل (1599-1658)، أوّل مناصري هذه العقيدة وأوّل رئيس يعلن تأسيس دولة إسرائيل؛ ثمّ انتهج رئيس الوزراء بينجامين دزرائيلي خطاه، وتابع آرثر جيمس بلفور مسيرته (1917)، جاعلين من هذا الحدث أحد الأهداف التي تعوّل إنجلترا على تحقيقها في الشرق الأوسط.

روّج المتشدّدون الطهوريّون الفارّون من إنجلترا هذه النظريّة في أميركا. ويُعتَبر لاهوت جون نيلسون "التدبيريّ" حجر الأساس في هذه الحركة؛ إذ بدأ ينتشر منذ العام 1909 من خلال إنجيل سكوفيلد المرجعيّ. أمّا بطل "الاسترجاعيّة" فقد كان رجل الأعمال الفائق الثراء وليم بلاكستون، الذي كان من أوّل المدافعين عن تأسيس دولة يهوديّة.
تأثّر الرئيسان الأميركيّان ويلسون وترومان بهذه الحركة، وكذلك الرئيس كارتر الذي كتب في مذكّراته: "إنّ تأسيس دولة إسرائيل الحديثة تحقيق للنبوءة البيبليّة".
في عهد الرئيس ريغان الذي أعلن انتماءه إلى "الصهيونيّة المسيحيّة"، توطّد التعاون الوثيق بين الإدارة الأميركيّة ودولة إسرائيل. فقد شهد البيت الأبيض لقاءات عديدة جمعت بين ممثّلي اللوبي اليهوديّ (منظّمة إيباك AIPAC) ومنظّمات "الصهيونيّة المسيحيّة"؛ ومن بين المجتمعين، نذكر: هال ليندسي، وجيري فالويل، ومايك إيفانز، وبول روبرتسون، وغيرهم من الشخصيّات... وبفضل هذا التعاون، طوّر مناحم بيغن العلاقات بين صفوف قادة "الصهيونيّة المسيحيّة" وعزّزها. 

قد نعتقد أنّ الأميركيّين هم بمجملهم أصوليّون! لكنّ هذا الافتراض غير صحيح، بحيث يقدَّر عدد الإنجيليّين بحوالى 90 مليون نسمة، ومن بينهم 18 أو20 مليون شخص يؤمنون بلاهوت "الصهيونيّة المسيحيّة". كيف يعقل إذاً أن يكون تأثير عشرين مليون أميركيّ في السياسة الأميركيّة قوياً إلى هذا الحدّ؟
- يبرز تأثير "المسيحيّين الصهاينة" لا سيّما في سياسة الشرق الأوسط الخارجيّة وفي ما يتعلّق بإسرائيل.

- يستفيد "المسيحيّون الصهاينة" من تعاطف إنجيليّي "منطقة الحزام الإنجيليّ" جنوب الولايات المتّحدة (Bible Belt). فهم أثناء الانتخابات، يعبّئونهم تماماً كما حصل مع ريغان وبوش... تجدر الإشارة إلى أنّ عددهم (6.5 في المئة من الشعب) مصيريّ لأنّهم هم مَن يرجّحون الكفّة.

- لديهم القدرة على تعيين شخصيّات نافذة من تيّاراتهم في مناصب صنع القرار؛ إضافةً إلى أنّ الراعي روبرتسون، وهو مقرَّب من الرئيس ريغان، كان يحضر جميع اجتماعات البيت الأبيض التي تلقي بنتائجها على الشرق الأوسط. وفي هذا الصدد، يمكن ذكر العديد من الشخصيّات، منها: دان رامسفيلد، ديك تشيني، جورج واكر بوش، مايك أشكروفت...
- يمثّل تطوّر الوسائل المادّيّة التي يستفيد منها الإنجيليّون المحافظون مؤشّراً لنجاحهم. فقد قُدِّر مجمل موازنات المنظّمات التي تعتمد على تحرّكاتهم العام 2004 بقيمة 22 مليار دولار.
- يتمتّعون بقوّة إعلاميّة نافذة: بول روبرتسون يصل إلى شاشات 16 مليون عائلة من خلال شبكة سي.بي.إن الإخباريّة (Christian Broadcasting Network CBN)؛ وكذلك إلى 9،25 مليون مشاهد عبر محطّة اسواجارت، باتون روج، لويزيانا...
ولا بدّ من إضافة أكثر من 80 ألف راعٍ يبشّرون يومياً عبر 400 محطّة إذاعيّة وينشرون أفكارهم عبر أثيرها.
- تضمّ "الصهيونيّة المسيحيّة" ما يزيد عن 250 منظّمة فاعلة في المجالات الثقافيّة، والدينيّة، والماليّة، والسياسيّة، والديبلوماسيّة. ويمثّل المصرف المسيحيّ-الأميركيّ من أجل إسرائيل (The American Christian Trust for Israel)، وهو المصرف الأميركيّ الوحيد الذي افتتح فرعاً له في إسرائيل خير دليل على ذلك؛ إذ إنّه يموّل عمليّات شراء الأراضي العربيّة، ويضمن تمويل المستوطنات اليهوديّة، وهجرة اليهود إلى إسرائيل؛ ثمّة مثال آخر على ذلك وهو مؤتمر القيادة المسيحيّة القوميّ من أجل إسرائيل (The National Christian Leadership Conference for Israel) وشعاره: "لا يمكنك أن تكون مسيحياً ما لم تكن يهودياً"؛ وكذلك المؤتمر المسيحيّ الوطنيّ (The National Christian Congress) الذي تقضي مهمّته بمعارضة بيع الأسلحة إلى أيّ بلد عربيّ أو مسلم معارضةً تامّة.
في الواقع، لا يخفى على أحد أنّ مصطلح "مسيحيّ" يرد في هذه التسميات كلّها، ما يحمل عادةً الشعب المسلم على اعتبار أفعال تلك المنظّمات أفعالاً تشمل المسيحيّين كلّهم. الالتباس شديد الخطورة لأنّه يتمّ استغلاله ضدّ مسيحيي الشرق الأوسط.

ويُعتَبَر المنتمون إلى "الصهيونيّة المسيحيّة" أقلّيّةً بين إنجيليّي الولايات المتّحدة (حوالى 20 مليون شخص). "فالمجلس القوميّ لكنائس المسيح" (National Council of the Churches of Christ)، الذي يجمع 34 طائفة ويعُدّ أكثر من 40 مليون مؤيّد، يرفض تفسيرات الكتب المقدّسة الحرفيّة وكلّ إيديولوجيّة أصوليّة؛ وليس المجلس وحده مَن يعارض هذه التفسيرات، بل المعمدانيّون (Baptistes) أيضاً وعددهم 2,21 ملايين شخص، والميثوديّون (Méthodistes) وهم 8,1 ملايين شخص، والمشيخيّون البرسبيتاريّون (Presbytériens) ويقدَّر عددهم بـ 8,2 ملايين شخص، والأسقفيّون (Episcopaliens)، وكنيسة المسيح المتّحدة (United Church of Christ)...

من البديهيّ أنّه، على المستويَيْن اللاهوتيّ والعقائديّ ومن خلال تفسيرات الكتابات البيبليّة، ما من نقاط مشتركة تجمع بين العشرين مليون "صهيونيّ مسيحيّ" والمسيحيّين الذين يقدَّر عددهم بـ 2٫2 مليارات شخص. وعلى الرغم من الأهداف النهائيّة المختلفة التي تفصل بينهما، إلاّ أنّ مصالح الصهيونيّتَيْن المسيحيّة واليهوديّة تتقارب منذ أكثر من مئة عام.

 

المصدر: 
النهار