نكبة فلسطين وثورة مصر

بقلم: 

 

كيف نفسر حقيقة أن ثورات شعبية قامت فى أقطار عربية مهمة، ومع ذلك لا نلحظ لها، إلى الآن، آثارا إيجابية على قضية فلــســـطين، التي جرى ويجري وصفها بأنها ‘قضية العرب المركزية الكبرى’، تلك العبارة التي درجنا على تكرارها منذ عام النكبة؟

قدر من التفسير ـ فيما نظن ـ يعود إلى ظاهرة الثورة العربية الجديدة نفسها، فقد قامت في صورة هبات شعبية مليونية، وبلا قيادة مطابقة لتلقائيتها وعنفوانها، ودخلت في مراحل مخاض وتعثر عسيرة، لكنها تظل حية، وتقاوم التردي، ولا تفتر همتها، وإن لم تصل بعد إلى شاطئ ختام تستقر عنده الصورة، وتتوازن الرؤى، وتقيم أنظمة صالحة للاستقرار، وتعيد بناء التكامل الضروري في قضية الثورة، وتضيف إلى الاهتمام الحق بالشؤون الداخلية لأقطار الثورات، وتدرك أن قضايا التنمية والديمقراطية والدين والدولة لا تنفصل بحال عن أولوية الاستقلال الوطني والهم القومي الجامع. وتتفاوت الأحوال بالطبع في أقطار الثورة، ويبدو التعويل ظاهرا على قضية الثورة في مصر بالذات، ليس ـ فقط ـ باعتبارات التاريخ والجغرافيا اللصيقة بالمعنى الفلسطيني، وليس ـ فقط ـ باعتبارات الحجم والمكانة التي تتمتع بها مصر، ولكن لسبب جوهري آخر يتعلق بمصير الثورات نفسها، فما يحدث في مصر بالذات، يعود ويؤثر بصورة حاسمة في المشهد العربي كله، وإلام تصير إليه الحوادث في مصر، يعود فيطبع بطابعه نهاية الثورات المتصلة فصولها، وهو ما تدركه إسرائيل وأمريكا بصفة غريزية واستراتيجية، وتتصرفان على أساسه، وتبنيان تقديرهما للتطورات في المدى الأقصر وفي المدى الأبعد، وإسرائيل ـ بالذات ـ تدرك أن عودة مصر لخط المواجهة هو الاحتمال الراجح في المدى الأبعد، وأن المطلوب ـ في المدى الأقصر ـ هو احتواء الثورة وتدجينها، وتستعين في تحقيق المطلوب بدور واشنطن، وهو ما يفسر الحفاوة الأمريكية بنسخة حكم الإخوان الافتراضي في مصر بعد الثورة، ودفعه إلى استنساخ صورة مطابقة لحكم مبارك، وبذل ضغوط متصلة لرعاية ما قد يصح وصفه بامتيازات إسرائيل في مصر، فلا شيء تغير في تصرفات السلطة، ولا في اختياراتها الموروثة عن سلطة جماعة مبارك، فقد استمر الاقتصاد على مبدأ رعاية مصالح ‘رأسمالية المحاسيب’ أو رأسمالية المقاطيع، وفي السياسة ظلت الهيمنة الأمريكية حاضرة على حالها، وظلت الأولوية قائمة لدور السلطة في حفظ أمن إسرائيل، وهو ما يفسر حقيقة أن اتفاق الكويز ـ الموروث عن مبارك ـ جرى توسيعه إلى سبع محافظات مصرية بدلا من خمس محافظات في أيام الرئيس المخلوع، والاتفاق المشار إليه ‘ثلاثي’ بين مصر وأمريكا وإسرائيل في مجال صناعة النسيج، ثم أن التعاون الأمني بين مصر الرسمية وإسرائيل زاد بصورة طفرية عما كان عليه أيام المخلوع، وهو ما كان موضع ثناء متبجح من الجنرال جانتس رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، الذي أشار ـ في تصريحات علنية ـ إلى أن التعاون الأمني أصبح أكثر وأفضل في عهد مرسي مقارنة بأيام مبارك، وحين وجهت ‘قناة الجزيرة’ القطرية ـ الداعمة للإخوان ـ سؤالا لمرسي عن تصريحات جانتس المخجلة، كان رد الرئيس ‘الإخواني’ أعجب من العجب، فقد ارجع زيادة تعاونه الأمني مع إسرائيل إلى ما سماه ‘الندية’ في التعامل، وكأن ‘الندية’ صارت في عرفه هي المرادف اللغوي للتبعية، وربما الخيانة السياسية، أضف إلى ذلك ما يعلمه الكل عن قصة السفير الإسرائيلي في مصر بعد الثورة، فقد كانت طلائع الثورة الشعبية المصرية قد أحرقت واقتحمت دار السفارة الإسرائيلية في القاهرة، وهرب السفير الإسرائيلي تحت جنح الظلام، لكن المجلس العسكري ـ الحاكم وقتها ـ قبل مبدأ تعيين سفير إسرائيلي جديد هو يعقوب بن أميتاي، وإن تنصل المجلس العسكري من مهمة تعيين مكان رسمي جديد للسفارة الإسرائيلية خوفا من الغضب الشعبي، وهي السياسة ذاتها التي استمر مرسي عليها خوفا من الغضب الشعبي الثائر على سلطة الإخوان، وظل السفير الإسرائيلي يمارس عمله من مخبأ محصن أمنيا في حي المعادي القاهري، وحين حدث العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، كرر مرسي ما فعله مبارك عام 2002، وقرر سحب السفير المصري من تل أبيب، لكنه لم يقرر طرد السفير الإسرائيلي من القاهرة، وهكذا ظلت العلاقات الدبلوماسية والأمنية جارية، وكان امتنان الحكومة الإسرائيلية لمرسي ظاهرا في اتفاق وقف إطلاق النار، فقد التزم مرسي بتعهد جديد من نوعه، وهو التحكم بتصرفات حركة حماس العسكرية والصاروخية، كما التزم بقبول وضع إسرائيل لحساسات إلكترونية متقدمة على خط الحدود مع مصر، وهو ما أعلنه بنفسه نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، فيما صمتت القاهرة الرسمية عنه صمت القبور، وربما لا يتسع المقام أكثر لذكر تفاصيل تؤكد المعنى الذى ذهبنا إليه، وهو أن احتواء الثورة المصرية بقيود معاهدة السلام والمعونة الأمريكية الضامنة، وحجز طاقاتها عن الانطلاق لاستعادة ‘العروة الوثقى’ بين التكوين المصري والهم الفلسطيني، كل ذلك مما يتداخل مع أزمة الثورة في الداخل المصري، ووجود سلطة مضادة للثورة ممثلة في حكم الإخوان اليميني الرجعي، وهذه هي العقبة الأساسية في طريق الثورة المغدورة، وحين تزول العقبة وتنكشف الغمة، فسوف يعود وجه مصر إلى تألقه الفلسطيني، ففلسطين قضية وطنية مصرية بامتياز، وآية انتصار الثورة ـ عندنا ـ هي استعادة الاستقلال الوطني لمصر، بالاستغناء عن المعونة الأمريكية وتصفية جهازها المتضخم، وبسط سيطرة الجيش المصري على سيناء حتى خط الحدود، وقطع العلاقات تماما مع كيان الاغتصاب الإسرائيلي.

أزمة الثورات العربية الجديدة إذن، وأزمة الثورة المصرية ـ بالذات ـ هي جزء جوهري من المشكلة، لكن رؤية هذا الجانب لا يغني عن رؤية الجانب الأهم، وهو أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية، وأزمة الانقسام الفلسطيني المتصل منذ سنوات، الذي لا ينتهي بمصالحات لا تكتمل، وتبدو بعيدة عن جوهر المطلوب، فاستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية أولوية كبرى، ولكن على أساس المقاومة لا المساومة، وعلى أساس إحياء الثورة الفلسطينية الشعبية والمسلحة، وعلى أساس تطليق أوهام السلام البائس، ففلسطين لن تعود بإقامة مجالس تشريعية منتخبة على أراضي محتلة، ولن تعود بإقامة رئاسة وسلطة فلسطينية هي مجرد قبضة هواء، ولن تعود بمهرجانات واحتفالات في ذكرى النكبة، والمعركة ـ في جوهرها ـ دائرة على الأرض الفلسطينية، والمطلوب: رد اعتبار قضية فلسطين عند الفلسطينيين أولا، وإشعال ثورة فلسطينية على طريقة الثورات العربية المعاصرة، وبعنوان وحيد نصه ‘الشعب يريد إنهاء الاحتلال’.

 

 

المصدر: 
القدس العربي