"متلازمة الجدار"... إسرائيل تعزل نفسها بوهم توفير الأمن

زمن برس، فلسطين: بذرائع أمنية منها حماية مواطنيها وتعزيز أمنهم من عمليات ضدهم ومحاولات التسلل إلى المستوطنات أو إلى المناطق المحتلة عام 1948، وصدّ جزء من الهجمات ضدها، تواصل إسرائيل منذ أكثر من عقدين تعزيز المناطق الحدودية، من جميع الجهات، بعوائق أمنية متطورة، منها سياجات إلكترونية وجدران خرسانية. بعضها يقام أيضاً باسم التصدي للتهريب، والتهديدات الإرهابية من الدول المجاورة، أو باسم الخوف. لكن هذه الجدران تعزل إسرائيل في الوقت ذاته عن محيطها، وعليه تحمل أبعاداً أخرى، غير الأمنية، منها سياسية واجتماعية وفلسفية ونفسية وغيرها.
ربما يكون أشهر تلك الجدران، جدار الفصل العنصري المحيط بالضفة الغربية المحتلة، والذي وجد الفلسطينيون السبيل للمرور عبر ثغرات فيه، أو تسلقه والعبور من فوقه لكسر حصارهم. وربما يكون أمتن الجدران وأصلبها وأكثرها تطوراً، تحت الأرض وفوقها، ذاك الذي يحاصر قطاع غزة، لكن المقاومة الفلسطينية وجدت الطريقة لتجاوزه في عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. أما أحدثها، فقد يكون ذلك الجزء الذي تبنيه في الأراضي اللبنانية في الأيام الأخيرة، زاعمة أنه خلف الخط الأزرق (الذي رسمته الأمم المتحدة للفصل بين لبنان والأراضي المحتلة من إسرائيل)، لكن حتى لو صح ذلك، رغم رفض لبنان هذه المزاعم، فهي تدرك أن ثمة مواقع خلافية لا تزال تحتلها على طول الحدود، لا تسوية بشأنها بعد، ومع هذا قد تحاول فرض أمر واقع فيها.
يشار في الوقت ذاته، إلى أن بناء جدار خرساني ضخم على طول الحدود مع لبنان، بذريعة حماية البلدات والمستوطنات الإسرائيلية القريبة من الحدود، خصوصاً من قبل "قوة الرضوان" التابعة لـ"حزب الله"، ولمنع التسلل السريع إلى داخل إسرائيل، بدأ قبل سنوات، وليس بعد العدوان الواسع الأخير على لبنان (بين سبتمبر/أيلول 2024 ونوفمبر/تشرين الثاني 2024). وفي بيان لجيش الاحتلال في سبتمبر/أيلول 2018، أعلن أنه يقوم منذ أشهر ببناء جدار خرساني بارتفاع تسعة أمتار على طول الحدود مع لبنان، للتصدي لـ"قوة الرضوان". ولفت الجيش إلى أن الفكرة تأثرت بخطاب ألقاه عام 2011 الأمين العام لـ"حزب الله" في حينه حسن نصر الله، أعلن فيه عن خطة هجومية، ونيّة مقاتليه اختراق السياج الحدودي والتوغل في مناطق واسعة من الجليل. ورغم وجود الجدار الخرساني، إلا أن شخصاً تمكن من القفز فوقه في مارس/آذار 2023، ووصل من لبنان إلى مفترق مجيدو جنوب حيفا، حيث فجّر عبوة ناسفة أسفرت عن مصابين، بحسب المزاعم الإسرائيلية.
أعلن جيش الاحتلال منذ سبتمبر2018، أنه يقوم ببناء جدار خرساني بارتفاع تسعة أمتار على طول الحدود مع لبنان
الآن، وبعد تقييمات الوضع التي أجرتها الفرقة 91 في الجيش الإسرائيلي في أعقاب اتفاق وقف إطلاق النار قبل نحو عام مع لبنان (دخل حيز التنفيذ في 27 نوفمبر 2024)، تقرر مواصلة بناء الجدار في المناطق التي لم يُستكمل فيها بعد. وفي الأيام الأخيرة، استؤنفت الأعمال في منطقة مستوطنة أفيفيم، مقابل قرية مارون الراس اللبنانية.
وعلى الحدود مع مصر، تم بناء سياج عالٍ لمعالجة موجة التسلل من قبل العمال المهاجرين الأفارقة، وليكون حاجزاً أمام الجماعات التي تصنفها إسرائيل "إرهابية" في سيناء، كما تواصل إسرائيل إجراءاتها الأمنية المكثفة على الحدود المصرية في هذه الأيام أيضاً. أما الحدود الأردنية، فهي على موعد مع أطول عائق حدودي ستبنيه إسرائيل، يمتد لنحو 400 كيلومتر، ومن أكثرها تطوراً، بحجة التعامل مع تهديدات متزايدة مثل تهريب الأسلحة ومحاولات التسلل من قبل عناصر مدعومة من إيران عبر غور الأردن. ويشمل العائق جدراناً خرسانية.
وتشير مراجعة أجرتها "العربي الجديد" لبعض المصادر الإسرائيلية، إلى أن الجدل الإسرائيلي الداخلي بشأن الجدران لطالما كان حاضراً على مر السنوات الماضية. في مقال للباحث في معهد الأمن القومي، شلومو بروم، مطلع 2004، أشار إلى أن قرار الحكومة الإسرائيلية عام 2002 بناء جدار الفصل العنصري، جاء نتيجة ضغط جماهيري يطالب بحماية سكان إسرائيل داخل الخط الأخضر من العمليات التفجيرية بواسطة سياج. وتصاعد الضغط الجماهيري كلما اتضح للجمهور في إسرائيل أنه، رغم "الإنجازات" غير القليلة التي حققتها المنظومة الأمنية في إحباط العمليات "الانتحارية"، فإنها لا تنجح في منعها تماماً أو تقليصها إلى مستوى مقبول. وتبنّت إسرائيل فكرة إقامة عائق لمنع عمليات التسلل أو التحذير منها على الحدود مع لبنان، وفي غور الأردن، ومنذ بداية عملية أوسلو أيضاً حول قطاع غزة. ويبدو أن المشهد يتكرر اليوم أيضاً، في مطالبات سكان المستوطنات الشمالية الجيش الإسرائيلية بمزيد من الإجراءات الأمنية، قد يكون الجدار الإسمنتي أحد عناصرها.
اعتبر اليمين الإسرائيلي أن الطريقة الصحيحة لمحاربة "الإرهاب" هي من خلال ممارسة ضغط عسكري متواصل، وليس من خلال الانغلاق خلف الأسوار
مصادر إسرائيلية أخرى أشارت إلى أنه عندما طُرحت لأول مرة فكرة بناء حاجز مادي بين إسرائيل نفسها والمناطق (المحتلة)، عارضتها جهات في كل من اليسار واليمين. كانت حجة اليمين أن الطريقة الصحيحة لمحاربة "الإرهاب" هي من خلال ممارسة ضغط عسكري متواصل، وليس من خلال الانغلاق خلف الأسوار، وأن السياج سيكلف دافع الضرائب الإسرائيلي مبالغ طائلة، بينما فائدته موضع شك. كما أعرب اليمين عن مخاوفه من أن السياج قد يؤدي فعلياً إلى تقسيم البلاد، ويتسبب في توجيه العمليات نحو المستوطنات الواقعة شرق السياج. أما حجة اليسار فكانت أنه لا ينبغي دعم إقامة حاجز أمني فاصل لا يرافقه إخلاء للمستوطنات أو انسحاب من مناطق الضفة الغربية التي ستبقى في الجانب غير المحمي من السياج. كذلك، اقترح اليسار أن يكون السياج مبنياً على مسار الخط الأخضر.
عنصر حماية أم عزلة؟
بحسب مصادر إسرائيلية، تختلف نظرة المجتمع الإسرائيلي وكذلك المسؤولين الاسرائيليين إلى الجدران والعوائق الضخمة، بين من يرون فيها عنصر حماية وتحصّن، ووسيلة دفاع ضرورية، وآخرون يرونها عزلة وانسلاخاً عن المحيط، وهناك من يرون فيها عائقاً أمام السلام والتعايش، وأن إحاطة إسرائيل نفسها بالجدران قد تشير إلى أنها تُعرّف هويتها من خلال حدود صارمة، بدلاً من علاقات منفتحة فضلاً عمن ينظرون إلى مساوئ الجدران البيئية.
وفي البعد العسكري، حذّرت جهات أمنية إسرائيلية في السنوات الأخيرة، مما يُسمى "متلازمة السياج"، وهي الخشية من أن الاعتماد الزائد على الجدران قد يُضعف "الإبداع" والمرونة العملياتية. في أكتوبر 2019، نُشرت مادة على موقع مركز دادو، وهو هيئة تابعة لهيئة الأركان العامة الإسرائيلية، هدفها تطوير مجال فن العمليات والتفكير المنظومي في جيش الاحتلال، من أجل ترسيخه داخل الجيش ومساعدة مختلف وحداته، خصوصاً القيادات العليا، على تطبيقه. كاتب تلك المادة التي اطّلع عليها "العربي الجديد" كان يهودا فاخ، الذي برز اسمه في حرب الإبادة الحالية على قطاع غزة، قائداً للفرقة 252 التي نفّذت عمليات قتل للفلسطينيين في محور "نتساريم"، وشارك أفراد من عائلته في عمليات الهدم الواسعة في القطاع.
يهودا فاخ: نحن نعاني من مفارقة الجدار، فقد تحوّلت الجدران من أداة دفاعية تكتيكية إلى عائق ذهني وحاجز فكري
كتب فاخ في حينه "نحن نعاني من مفارقة الجدار، فقد تحوّلت الجدران من أداة دفاعية تكتيكية إلى عائق ذهني وحاجز فكري، يدركه قادة الجيش الإسرائيلي جزئياً فقط. وكلما زاد عدد الجدران على حدود إسرائيل وداخلها، ازدادت مركزيتها في الوعي وفي العقيدة الأمنية، رغم وجود أمثلة تاريخية مقلقة لجدران أمنية فشلت، مثل خط ماجينو أو سور الصين العظيم... كما فشل خط بار-ليف، أمام القوات المصرية. الاعتماد المتزايد على الدفاع والتحصّن يؤثر في القدرة العملياتية للقوات. ينبغي أن يكون الجدار وسيلة لا غاية، عنصراً واحداً ضمن رؤية عملياتية شاملة. وبذلك، قد تتغيّر طريقة التفكير ونمط العمل لدى القادة والجنود الذين يطبّقون مفهوم الأمن".
ولفت فاخ إلى أن "إسرائيل غيّرت نهجها في العقدين الأخيرين، في التعامل مع قضية الحدود، وانتقلت إلى مفهوم التحصّن والدفاع من وراء جدران وأسوار. درجة تحصين الحدود أصبحت معياراً مهماً في تحديد طبيعتها، وأحياناً أكثر أهمية من المسار الجغرافي نفسه". وأضاف أن "الحدود تؤثر في الجيش والمجتمع من جوانب متعددة، منها مساحة المعيشة للمواطنين، درجة التنقّل، مدى الاستقلالية، ومستوى التماسك الداخلي. لمفهوم الحدود تأثيرات أمنية، ولكن أيضاً انعكاسات نفسية". ورأى أن "بناء جدار الفصل في الضفة الغربية ونجاحه في الحد من العمليات الانتحارية أدّى إلى موجة من بناء الجدران، فيما جدار يجرّ جداراً. وكلما زاد عدد الجدران على طول الحدود، تبلورت أكثر فأكثر رؤية أمنية تعتمد على الدفاع والتحصّن". وادعى فاخ في مقاله أن "جدران الأمن على حدود إسرائيل تُشكّل عائقاً ذهنياً وحاجزاً فكرياً، يدركه قادة الجيش الإسرائيلي جزئياً فقط. وهكذا تنشأ انحيازات. فبينما كان الهدف الأساسي للجدار أن يكون حاجزاً تكتيكياً وأداة مساعدة لقوات الأمن، فإنه في الواقع يُضعف عناصر أساسية في التفكير العسكري داخل الجيش".
وأوضح أن "الجدار، بطبيعته، هو مكان للمواجهة. وعلى عكس الحدود التي يمكن أن تكون مساحة مفتوحة، هادئة وتسمح بالمرور، فإن الهدف الأساسي من الجدار هو خلق الانغلاق. والوجود المكثّف للجدران، كما هو الحال اليوم على جميع حدود إسرائيل، يُشكّل فعلياً منظومة من التحصينات". وأردف أن المجتمع الذي يتحصّن ويبني المزيد من الجدران هو مجتمع يعيش في حالة خوف، فيما التحصّن خلف حاجز مادي يمنح شعوراً بالأمان. ووفق هذا التصوّر، "من الأسهل احتلال شعب متحصّن خلف الجدران من شعب يعيش في معسكر مفتوح. قوة الجيش ومتانة المجتمع لا تكمن في الحواجز المادية، بل في الذهنية والتصوّر. الشعب الذي يتحصّن يُعتبر ضعيفاً نفسياً، ولذلك يسهل إخضاعه". وبرأي الكاتب، هناك ميل طبيعي لدى الإنسان للتعامل مع ما يراه بحواسه على أنه واقع "حقيقي". أي أن شخصاً أو قائداً يرى الجدار بعينيه ويُدركه بحواسه، يفترض أنه لا يمكن تجاوزه. وعليه فإن الجدار يخلق وهماً، خداعاً حسيّاً لحاجز. هذا الحاجز يُعتبر حقيقياً، رغم أنه مجرد وهم، ورغم أن الأمثلة المذكورة في المقال (خط ماجينو وخط بار-ليف) أثبتت أنه يمكن تجاوز هذا الحاجز بسهولة نسبية. جدران الفصل وحدود إسرائيل المحصّنة تخدم اليوم السردية الأمنية، تماماً كما خدم خط ماجينو وخط بار-ليف في زمانهما.
تغيّر إسرائيلي
من نظرة إسرائيلية، عكسها مقال فاخ، فإنه "في حين أن السكان في إسرائيل، بعد الحرب، يستقرّون بالقرب من الجدار وبمحاذاة الحدود، كجزء من رؤية أيديولوجية وأحياناً عقائدية، فإن السكان في الدول العربية يتجنّبون إقامة بلدات جديدة قرب الحدود، وأحياناً لا يعود سكان المنطقة إليها مجدداً". مع هذا تحدث المقال عن تغيير في نظرة الاسرائيليين إلى المستوطنات القريبة من الجدار. ففي حين سادت في الماضي الفكرة التي تقول إن المستوطنين الذي أُرسلوا للعيش قرب الجدار انطلاقاً من الفرضية أنه حيثما تُبنى مستوطنة وتُحرَث الأرض، هناك سيمرّ خط الحدود، وأن دور هذه المستوطنات هو المشاركة في الدفاع عن الحدود، فقد تغيّرت صورة المستوطنات القريبة من الجدار اليوم، خصوصاً أن الطرف الفلسطيني يرى في هذه المستوطنات عاملاً يُبعد التوصّل إلى اتفاق، ولذلك حوّلها، مع الجدار، إلى رمز للنضال. وهنا تغيرت الصلابة النفسية لدى المستوطنين. في الماضي، كانت المستوطنات القريبة من الجدار مستعدة لدفع الثمن مقابل الحفاظ على خط الحدود تحت السيادة الإسرائيلية، وكان سكانها يخرجون لحرث الحقول حتى ولو عرّضوا حياتهم للخطر، أما اليوم، فأصبحوا يطالبون بمستوى أمني مرتفع نسبياً. ويمكن القول إن البناء المكثّف للجدران على جميع الحدود وداخل أراضي "دولة إسرائيل" هو نتيجة لضغط تمارسه المستوطنات القريبة من الجدار. وحدث التحوّل الأكبر في هذا السياق حوالي عام 2000، حين وقعت عدة أحداث أدّت إلى تغيّر في التصوّر العام.
من مظاهر التغيير، التي أشار إليها المقال، انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من لبنان بقرار حكومي (عام 2000)، مما خلق وضعاً جديداً حيث ولأول مرة منذ سنوات (منذ حرب لبنان الأولى)، لم تعد قوات الجيش متمركزة أمام المستوطنات الحدودية. أيضاً، قرار الحكومة الإسرائيلية بناء جدار الفصل العنصري في منطقة الضفة الغربية جاء نتيجة تأثير مباشر للاحتكاك المستمر والواسع مع السكان الفلسطينيين، وتأثير غير مباشر ناتج عن ضغط شعبي داخل المجتمع الإسرائيلي بسبب هذا الاحتكاك.
"حاجز عميق"
اعتبر قادة عسكريون، على مر السنوات الماضية، أن الجدار هو حاجز عميق يؤثر في القدرات الجسدية للقوة العسكرية. وتحدّثت مصادر إسرائيلية عن صعوبة نفسية في عبور الجدار، سواء على مستوى الجندي، أو القيادة الميدانية، وحتى على مستوى قادة الكتائب في جيش الاحتلال. ومنهم من أشار إلى أنهم لا يمتلكون "الجرأة المطلوبة" لعدم تسيير دوريات عند الجدران، رغم المخاطر المترتبة على ذلك. وبرأيهم، لو كانت الجدران فعلاً أسواراً محصّنة يصعب اجتيازها، لكانوا سحبوا قواتهم إلى الخلف، وبالتالي كانت حماية منطقة الجدار ومنع عمليات التسلل ستُنفّذ عبر وسائل جمع المعلومات فقط، وبوجود محدود للجنود.
"منطقة أمنية متدرجة"
قد تكون الجدران أكثر فاعلية بالنسبة لإسرائيل من الناحية الأمنية، لدى دمجها مع عناصر أخرى، لكن ليس وحدها حيث شهدت عدة إخفاقات. في مارس 2025، كتب حاييم أتكين، وهو مخمّن عقاري إسرائيل معروف، عن مفهوم أمني جديد للمستوطنات الواقعة على خطوط المواجهة، من الاستيطان الملاصق للجدار إلى منطقة أمنية متدرجة. ولفت إلى أن مفهوم "البلدات الحدودية" في إسرائيل متجذّر بعمق في تاريخ الحركة الصهيونية وتأسيس الدولة، معتبراً أنه حتى في فترة "ما قبل قيام الدولة"، تطورت استراتيجية "السور والبرج"، التي هدفت إلى فرض وقائع على الأرض وحماية حدود الاستيطان اليهودي. واعتُبرت الكيبوتسات والموشافيم (تجمعات استيطانية) التي أُقيمت على طول حدود إسرائيل جزءاً لا يتجزأ من منظومة الدفاع القومي، وشكّلت خط الدفاع الأول ضد الغزوات والهجمات. وفي السنوات الأولى لـ"الدولة الإسرائيلية"، ومع تبلور مفهوم الأمن القومي، تبنّى دافيد بن غوريون نهج "الشعب المقاتل"، الذي يرى في كل مواطن جزءاً من منظومة الدفاع. وقد مُنحت البلدات الحدودية دوراً مركزياً في تشكيل حزام أمني على طول الحدود، وتمتّعت بمكانة خاصة ودعم حكومي واسع نظراً للدور الأمني الذي قامت به.
وأشار الكاتب إلى تغيّر نمط التهديدات بشكل كبير، وإلى تطوير فصائل المقاومة قدرات اختراق متطورة، كما ظهر في الهجوم من غزة في أكتوبر 2023، وكذلك في الشمال حيث إن التجمعات السكنية القريبة من السياج الحدودي أصبحت هدفاً سهلاً. فقد أظهر "حزب الله" وتنظيمات أخرى قدرة على تنفيذ ضربات دقيقة على التجمعات الإسرائيلية باستخدام الصواريخ، والقذائف، والمسيّرات. وقد عطّلت هذه الضربات الحياة في تلك التجمّعات وأدت إلى إجلاء واسع النطاق للمدنيين.
حاييم أتكين: النهج التقليدي الذي يعتبر المستوطنات الملاصقة للجدار خط الدفاع الأول لم يعد مناسباً، بل أصبح يشكّل نقطة ضعف استراتيجية
وعليه رأى الكاتب حاجة إلى الانتقال من مفهوم المستوطنات الملاصقة للجدار إلى مفهوم منطقة أمنية متدرجة، بحيث يتم الفصل الواضح بين المنظومة العسكرية والأمنية وبين التجمّعات السكانية المدنية. واعتبر أن النهج التقليدي الذي يعتبر المستوطنات الملاصقة للجدار خط الدفاع الأول لم يعد مناسباً، بل أصبح يشكّل نقطة ضعف استراتيجية، وعليه لا بد من الفصل الواضح بين المنظومة العسكرية والأمنية وبين التجمعات السكانية المدنية.
وفق هذا المفهوم، يعتمد خط الحدود نفسه على أنظمة دفاع عسكرية، حواجز مادية، ومواقع محصّنة، بينما تُقام المستوطنات على مسافة آمنة في الخلف. هذا النهج يتيح حماية أكثر فاعلية، ويقلّل من المخاطر على المدنيين، كما يسمح بردّ عسكري أكثر مرونة في حال وقوع هجوم. ويتضمن المجال الأمني المتدرج، عدة "خطوط دفاع" مدمجة ومنسقة، بدلاً من الاعتماد على خط دفاع واحد. يُصمم هذا المجال المتدرج بحيث توفر كل طبقة دفاع قدرات مكملة، وفشل إحدى الطبقات لا يؤدي بالضرورة إلى انهيار النظام بأكمله.
الجوانب النفسية لشعور الأمان
ربما تعزز رؤية الجدار، الجوانب النفسية للمستوطنين في المنطقة الشمالية، وهو ما تحدث عنه بعضهم لوسائل إعلام عبرية في الأيام الأخيرة، مع التقارير حول الجدار الذي يقيمه الجيش الإسرائيلي على الحدود مع لبنان. بعد أحداث أكتوبر 2023، حدثت أزمة ثقة كبيرة في قدرة المنظومة الأمنية على حماية المدنيين. وقد يُفسَّر إخلاء التجمّعات السكنية في الجنوب والشمال كإقرار بهذا الفشل.
برأي حاييم أتكين، فإن الوجود الفعلي لقوات الجيش بالقرب من التجمعات السكنية يعزز شعور الأمان. والابتعاد عن هذه القوات قد يقلل من هذا الشعور. ويؤكد في خلاصة مقاله، أهمية تحصين الحدود نفسها عبر حواجز مادية، تكنولوجيا متقدمة، وحضور عسكري دائم، بينما تُنقل التجمعات المدنية إلى موقع أكثر أماناً في العمق.
"علينا حماية أنفسنا من الوحوش المفترسة"
في فبراير/شباط 2016، عند اتخاذ إسرائيل قرارها ببناء "العائق الأمني" المتطور حول قطاع غزة، تحت الأرض وفوقها، ووسائل مراقبة، وحاجز بحري، صرّح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو: "هل سنحيط دولة إسرائيل كلها بسياج وحاجز؟ الجواب هو نعم. في البيئة التي نعيش فيها، علينا أن نحمي أنفسنا من الوحوش المفترسة".
وفي ديسمبر/كانون الأول 2021، خلال تدشين العائق، صرّح وزير الأمن آنذاك بيني غانتس: "العائق، وهو مشروع تكنولوجي وإبداعي من الدرجة الأولى، يحرم حماس من إحدى القدرات التي حاولت تطويرها، ويضع جداراً من الفولاذ، وأجهزة استشعار، وخرسانة، بينها وبين سكان الجنوب. هذا الجدار يمنح شعوراً بالأمان الشخصي، ما سيسمح لهذا المكان الجميل بالاستمرار في النمو".
نتنياهو: هل سنحيط دولة إسرائيل كلها بسياج وحاجز؟ الجواب هو نعم. في البيئة التي نعيش فيها، علينا أن نحمي أنفسنا من الوحوش المفترسة
وفي المناسبة نفسها، صرّح رئيس الأركان آنذاك أفيف كوخافي: "هذا الحاجز هو جزء من جدار الحديد في عقيدتنا الدفاعية، في البر، والجو، والبحر، وفي كل المجالات. إنه يمثل تفكيراً خارج الصندوق... الحاجز يغيّر الواقع، ما كان قبله لن يكون بعده". لكن هذه التصريحات سقطت في السابع من أكتوبر 2023 وسقطت معها دفاعات الجدار. قبل ذلك، كتب الجيولوجي، والعقيد المتقاعد يوسي لانغوتسكي، عام 2018، أن العائق هو خط ماجينو جديد: "المنطق والفطرة السليمة يُحتّمان علينا أن نفترض بأن حماس ستبذل جهداً كبيراً لتعطيل الحاجز، بل وستنجح في ذلك". كان هذا الكلام قبل خمس سنوات من "طوفان الأقصى".
في 31 أكتوبر 2023 كتب ناتي مروم من جامعة رايخمان، في إحدى المجلات التي تُعنى بمجال البيئة، أنه "في صباح السابع من أكتوبر 2023، تم اختراق الحاجز الفيزيائي والتكنولوجي المتطور والمكلف المحيط بقطاع غزة... إلى جانب اختراق الحاجز، شهدت دولة إسرائيل أيضاً انهيار المفهوم الذي اعتمدته لإدارة الصراع مع حماس خصوصاً، ومع الفلسطينيين عموماً. وفي لحظة، أصبح واضحاً للجميع أن طريقة تعامل إسرائيل مع غزة لا يمكن أن تستمر كما كانت خلال الخمسة عشر عاماً الماضية". وأضاف في حينه: "مرّ عام وعشرة أشهر بالضبط منذ تدشين العائق (فوق وتحت الأرض)، في 7 ديسمبر 2021، وحتى فشله الكارثي. بلغت تكلفة الحاجز، الذي يُعد من أكبر المشاريع الهندسية والتكنولوجية لوزارة الدفاع في العقود الأخيرة، نحو 4 مليارات شيكل (نحو مليار و226 مليون دولار). وشمل جداراً خرسانياً يمتد على طول 65 كيلومتراً، بارتفاع 6 أمتار فوق سطح الأرض وعشرات الأمتار تحتها، وهي كمية من الخرسانة، بحسب أحد التقارير، تكفي لتعبيد طريق من إسرائيل إلى بلغاريا. قليلون فقط رأوا حينها بوضوح أنه، رغم الادعاءات بالإبداع والتفكير خارج الصندوق، فإن الحاجز يُجسّد جموداً فكرياً ومنهجياً، ولكن على نطاق جديد".




