تشكل النخب الفلسطينية الجديدة

ظهرت النخب السياسية والاجتماعية في فلسطين في سياق تطور مسيرة النضال الوطني الفلسطيني، وكانت النخبة السياسية الفلسطينية قد تشكلت من الشخصيات ذات النفوذ التقليدي في إطار الهيئة العربية العليا قبل عام 1948، وكانت متحدرة من جذور العائلات الارستقراطية.

وبعد انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة في سنة 1965 وتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في سنة 1964، تكون معظم قيادات الفصائل الفلسطينية على اختلاف مشاربها من خريجي الجامعات المتعلمين والمتنورين ممن ساهموا في بلورة الرؤية السياسية والنضالية الوطنية، حيث جاءت الثورة المعاصرة كرد على هزيمتي 1948 و1967.

وكان لطابع تلك الشريحة القيادية التي أتت في أصولها من المتعلمين والمثقفين دور في إغناء الفكر السياسي وتعزيز النقاش في الوسائل والآليات والبرامج والمناهج الأفضل لتحرير فلسطين. وقد سادت نقاشات ساخنة حينذاك في شأن فكرة أسبقية الوحدة العربية على التحرير أم أن التحرير يجب أن يسبق الوحدة العربية.

عندما تشكلت السلطة الفلسطينية بعد عام 1994 في اثر توقيع اتفاق أوسلو، استندت السلطة إلى النظام المركزي الزبائني، وبدأت تتبلور شريحة سياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية جديدة حلت محل الشريحة القديمة، وأصبحت تستفيد من علاقة القربى وعلاقات التقرب من مركز صناع القرار السياسي. وقد تبلورت ظاهرة الفساد المبنية على العلاقة بين المال والسياسة والأمن، وسادت احتكارات اقتصادية ومراكز قوى ونفوذ في بنية السلطة على الصعد الأمنية والاقتصادية والسياسية. تكونت النخبة في سياق تطور السلطة ومسيرتها من العناصر التالية: أعضاء الحكومة، الوزراء، وكلاء الوزراء، أعضاء المجلس التشريعي، قادة الأجهزة الأمنية، الأمناء العامون للفصائل المنضوية في إطار منظمة التحرير.

وفي مقابل هذه النخبة برزت نخبة حركة حماس المؤلفة من العناصر والكوادر القيادية على المستوى السياسي وعلى مستوى العاملين في المنظمات الخيرية والاجتماعية، ولكنها كانت نخبة «معارضة». في المقابل تشكلت نخبة من المديرين الكبار في المنظمات غير الحكومية (NGOs) وتحولت الى شريحة متميزة لها امتيازاتها مثل الرواتب العالية والسفر والتسهيلات... إلخ، علماً بأن معظم المسؤولين في إطار المنظمات غير الحكومة جاؤوا من جذور يسارية، لكنهم عبر شعار المهنية والابتعاد عن السياسة والعمل في المجال التنموي أو الحقوقي أصبحوا منسلخين من أطرهم السياسية الأصلية وممارسين لمهنة جديدة حققت لهم امتيازات خاصة، وتبنوا لغة أقرب لليبرالية منها إلى القضايا الوطنية المصيرية.

هذا لا يعنى أن جميع العاملين في المنظمات غير الحكومية حققوا الامتيازات نفسها، لأن قسما منهم ما زال يربط ما بين السياسي والاجتماعي ولا يتمتع التسهيلات نفسها التي تتمتع بها الشريحة القيادية من مديري المنظمات غير الحكومية.

 

 

الانقسام وإعادة هيكلة النخب

 

من الطبيعي في ظل غياب أدوات وآليات الرقابة، مثل المجلس التشريعي، وفي ظل سيطرة حزب واحد على مقاليد الحكم، أن تتكون حول الحكومة نخب جديدة تحتكر مجالات العمل في السياسة والاقتصاد، وتحقق امتيازات ومكانة مهمة في ظل الانقسام والسيطرة على مفاتيح المجتمع الاقتصادية والأمنية والسياسية. لقد تكونت نخب في كل من قطاع غزة والضفة الغربية بسبب السيطرة المطلقة لكل من الحكومتين، وفي ظل غياب الشراكة وآليات المساءلة المؤسساتية وضعف الرقابة الشعبية؛ هذا الضعف الأخير الذي نتج عن شدة القمع وتقويض حالة الحريات العامة. وقد شكل الانقسام السياسي والجغرافي الذي ترسخ بعد عملية الحسم العسكري أو «الانقلاب» الذي قامت به حركة حماس في 14/6/2007، مرحلة سياسية واجتماعية جديدة استفادت منها بعض العناصر والشخصيات التي تحولت إلى نخب في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة.

 

أ. قطاع غزة

 

إن السيطرة الأمنية على قطاع غزة قادت حركة حماس إلى القيام بعملية استبدال وإحلال شامل لكل مكونات النظام السياسي الذي كان قائما في القطاع، الأمر الذي أشار إلى تشابه مع حالة بلدان العالم الثالث التي يقوم بها الحزب الجديد الذي تربع لتوه على السلطة بإزاحة شاملة للقديم وإحلال أعضائه وكوادره وعناصره على أنقاضه وعلى حساب القديم. لقد كشف هذا الانقلاب ضعف الثقافة الديمقراطية والإقرار بمبدأ التداول السلمي للسلطة، إذ أصبحت السلطة وسيلة للثراء وتحقيق النفوذ والمكانة بدلاً من أن تكون أداة خادمة للصالح العام ولتنفيذ البرنامج الانتخابي للحزب الجديد. وواقع الحال أن حركة فتح أخطأت عندما وضعت العراقيل أمام حركة حماس لتبوء المركز القيادي في الحكم في اثر فوزها الكاسح في الانتخابات التشريعية التي أجريت في بداية عام 2006، كما أخطأت حركة حماس عندما استخدمت وسائل القوة والعنف لحسم التناقضات الداخلية، حيث كان من المفترض استنفاد الوسائل القانونية والدستورية والحقوقية والرأي العام والحراك الشعبي ... إلخ كوسائل للضغط على قيادة حركة فتح من أجل تمكين حكومة حماس من إدارة شؤون الحكم على قاعدة الانتخابات الدورية ومبدأ التداول السلمي للسلطة.

لقد استغلت حركة حماس قرار السلطة في رام الله بدعوة موظفي القطاع العام البالغ عددهم حوالي 78 ألف موظف للجلوس في البيت وعدم الذهاب إلى مواقع العمل في الوزارات والأجهزة الأمنية، لتقوم بتعبئة الفراغ بموظفين تابعين لها، وبالتالي قامت بتعيين حوالي 35 ألف موظف، وعبأت المواقع التي أصبحت شاغرة بحكم «استنكاف» قطاع واسع من موظفي السلطة «السابقة»، علماً بأن بعض هؤلاء الموظفين رفض الاستنكاف واستمر في العمل في مواقعه المختلفة.

 

في مواجهة المرصد الاسرائيلي

 

أسفر عن السيطرة الكاملة لحركة حماس على مقاليد السلطة في قطاع غزة عن تشكيل نخب في مجالات ودوائر مختلفة، أبرزها أعضاء الحكومة التي تشكلت برئاسة اسماعيل هنية وأعضاء من المجلس التشريعي وقادة الأجهزة الأمنية، وبعض العاملين في الحقلين الإعلامي والعام، وأصبح لهؤلاء حظوة ومكانة مستخدمين الأساليب نفسها التي كانت تمارسها النخبة القديمة من حيث الحراسات والامتيازات.

وربما يتجلى مشهد النخبة السياسية التابعة لحركة حماس في معبر رفح، حيث يعاني الفلسطينيون مشقات السفر، ويعتبر هذا المعبر المنفذ الوحيد الذي يسمح به بالحركة والسفر للمواطنين من قطاع غزة، وبسبب محدودية العمل في المعبر وقدرة استيعابه المحدودة أيضاً، تلجأ حكومة حماس عبر وزارة الداخلية الى تسجيل الراغبين في السفر، حيث يجب أن يتم التسجيل في موعد لا يقل عن أسبوعين قبل يوم السفر، ويتم بعدها السفر في التاريخ المحدد من طريق صالة رياضية تسمى «أبو يوسف النجار» في مدينة خان يونس، حيث يتجمع فيها المسافرون، ثم تقلهم حافلات بحسب ما هو وارد في تذكرة الحجز، وعددها لا يتجاوز 14 حافلة في اليوم الواحد، مع استثناءات في بعض الأيام.

وكانت الحكومة المصرية تسمح بالسفر عبر المعبر لعدد لا يتجاوز 600 مسافر، مع أن هذا العدد ازداد الآن ووصل في بعض الحالات والأيام إلى 1000 مسافر، لكن هذا لم يلغ آلية السفر الواردة أعلاه التي ما زالت مستمرة إلى الآن. في ظل هذا المشهد، يرى المسافرون أفرادا من كوادر وأعضاء حركة حماس يسافرون وفق آلية الشخصيات المهمة جدا (VIP) عبر سيارات مكيفة مصحوبين بحراسة ومرافقين، ويدخلون من البوابة مباشرة، ثم ينقلون بالسيارات المخصصة لهذا الغرض إلى الجانب المصري، بعيداً عن معاناة المواطنين والمسافرين. إن مشهد السفر عبر بوابة معبر رفح يشير إلى طبيعة التمايز بين أهل الحكم والمواطنين، مع أن حكومة حماس تراعي بعض الشخصيات العاملة بالحقل العام من ناشطي المجتمع المدني وحقوق الانسان والقطاع الخاص أيضاً.

نستطيع القول إن الاستثمار في الحكم في قطاع غزة كوّن شرائح نخبوية متعددة ذات علاقة وترابط مع حركة حماس بصفتها الحركة التي بسطت سيطرتها الكاملة على القطاع. وكان أبرز تلك النخب، الشريحة الاقتصادية التي استغلت تجارة الأنفاق لتحقيق الأرباح الهائلة والثروات، حيث ولد مئات من الذين أصبحوا أصحاب الملايين في الوقت الذي كانوا يعيشون سابقا في ظروف اقتصادية صعبة وشبه مسحوقة.

إن الفئة الخاصة بالأنفاق ليست هي الوحيدة التي أصبحت متنفذة اقتصادياً، خاصة بعد أن أصبح الاستيراد عبر الأنفاق يشكل 70% من حجم الاستيراد لقطاع غزة بسبب سياسة الحصار ومحدودية إدخال السلع التي لم تتجاوز 30% من حجم المستوردات، بل تعدى الأمر الى تجارة الأراضي التي أصبحت أسعارها فلكية، وكذلك تجارة الشقق السكنية، حيث شهدت غزة في السنتين الأخيرتين موجة كبيرة من بناء الأبراج السكنية التي يتحكم بمعظمها مقاولون وشركات ذات علاقة بحركة حماس، كما سيطرت الشريحة الاقتصادية على تجارة التحويلات المالية والنقدية، في حين أن بعض الصناعات والمنتجات الزراعية يديرها تجار لهم علاقة بالحركة أيضا.

إن السيطرة على مفاتيح الاقتصاد في قطاع غزة، (تجارة الأنفاق، العقارات، استيراد السيارات، التحويلات المالية) يتم في ظل سياسة ضريبية غير متوازنة وتتنافي مع تشخيص حالة قطاع غزة بصفته خاضعاً لحصار ويعاني أحوالاً شديدة من الفقر والبطالة، الأمر الذي يتطلب اعتماد سياسة ضريبية متوازنة، وتشجيع المشاريع الصغيرة والقطاع الخاص بدلاً من ارهاقها بالضرائب، ما سيؤدي إلى طردها من السوق واحلال تجار في موقعها لهم علاقة بحركة حماس، علماً أن السياسة الضريبية المتشددة لم تنعكس على أسلوب حياة المواطنين ورفاهيتهم من حيث أهمية استخدام الأموال الضريبة العامة لتحقيق برامج مفيدة للمواطنين في مجالات الصحة والتعليم والبنية التحتية والكهرباء والمياه ... إلخ.

 

ب. الضفة الغربية

 

على الرغم من الادعاء بالطابع المهني للحكومة التي تألفت في الضفة الغربية برئاسة سلام فياض، إلا أننا نستطيع القول ان الحكومة بدأت موقتة ولتسيير الأعمال حيث يفترض بعد ذلك أن تعرض على المجلس التشريعي لنيل الثقة، الأمر الذي لم يحدث بسبب الانقسام وسيطرة كتلة الاصلاح والتغيير على المجلس في قطاع غزة، والتي استخدمته كوسيلة لتمرير سياساتها وقوانينها، كما قام الرئيس «أبو مازن» باستصدار سلسلة من المراسيم الرئاسية التي هي في منزلة القوانين، ما دل على انقسام المؤسسة الجمعية للنظام السياسي الفلسطيني.

إلا أن سيطرة حركة فتح على الحكومة ساهمت في تشكيل نخب تمحورت حول الطابع السياسي والاقتصادي والأمني وشملت أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، والأمناء العامين للفصائل المنضوية في إطار المنظمة، بعض أعضاء المجلس التشريعي، وأعضاء في اللجنة المركزية لحركة فتح، وقادة الأجهزة الأمنية، وشريحة اقتصادية نافذة من القطاع الخاص تتداخل مع أصحاب المواقع والنفوذ.

وهذه الفئات النخبوية تشكلت على خلفية اقصاء حركة حماس في الضفة، كما تشكلت النخب في القطاع على خلفية اقصاء حركة فتح ومكونات السلطة «السابقة». اللافت أن هناك شريحة رجال الأعمال الموجودة تاريخياً، والتي تركز دورها الاقتصادي في الضفة وأخذت تقوم بتنفيذ مشاريع مشتركة مع بعض المستثمرين الإسرائيليين ممن يقومون باستثمار أموالهم في أسواق الضفة الغربية والمستوطنات الاسرائيلية، علماً بأن الاجتماعات التي تمت بخصوص ذلك وتحت مبررات «السلام» وتنشيطه والدفع باتجاه المبادرة العربية ... إلخ، قد تمت في ظل أشخاص على صلة مع قيادة السلطة، إلا أنها جوبهت بفعاليات من نشطاء شباب وحملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض عقوبات على إسرائيل، مع الإشارة إلى أن بعض الدراسات كانت أشارت إلى ان بعض الفلسطينيين استثمروا في المستوطنات مبلغا لا يقل عن 2 مليار دولار، الأمر الذي شكل صدمة في أوساط الرأي العام الفلسطيني.

ومن اللافت أيضاً، أن هذه الشريحة تحاول أن تلعب دوراً سياسياً تحت عناوين مختلفة، أبرزها تنشيط مساعي المصالحة، وتقديم مبادرات ومقترحات ذات صلة بالوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام. إن تنامي بعض المقـــترحات السيـــاسية، لدى رموز القطاع الخاص أو المجتمع المدني في الضـــفة أو القطاع، يعكس حالة التشتت وغياب الكيانــية والبيت الموحد للفلسطينيين، ما فتح المجال لأصحاب تلك المبادرات والمقترحات للتقدم بها.

 

نخب المثقفين والمجتمع المدني

 

يمكن القول ان الاستقطاب كان حاداً وأصبح شديداً بين «فتح» و«حماس» في ظل تراجع القوى اليسارية والديمقراطية، وبالتالي فقد انزاح في هذا الانقسام جزء من شريحة المثقفين والإعلاميين والمنظمات الأهلية وأصبحوا أكثر قرباً من الحكومة في المنطقتين.

وعلى الرغم من الاستقلال العام الذي كان يميز تلك المنظمات والشخصيات، إلا أن انحيازاً يمكن اكتشافه لهذا الطرف أو ذاك، وهذا لا يلغي القول إن بعض تلك المنظمات والأشخاص ما زالوا مستقلين وغير منحازين ومحافظين على هويتهم ورؤيتهم المميزة البعيدة عن قطبي الصراع. وقد أصبح الخطاب الحقوقي لمنظمات العمل الأهلي يراعي الدبلوماسية والدقة واللباقة حينما يتعلق الأمر بانتهاكات محددة في النطاق الذي تعمل فيه تلك المنظمات.

حاول بعض شخصيات العمل الأهلي فتح قنوات لحركة حماس أمام الوفود الدولية الزائرة للقطاع بهدف كسر الحصار عن الحركة وادماجها بالمنظومة الدولية، ووصل الأمر الى تقديم مقترحات تشير إلى إمكانية قيام الدولة في قطاع غزة أولاً، طويلة الأمد مع إسرائيل، ويتم تأكيد الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية في حدود عام 67، على أن تبدأ من غزة أولاً من دون الضفة، بما فيها القدس.

لم تستطع نخبة المنظمات الأهلية أن تؤوي دوراً معارضاً وفاعلاً تجاه الانقسام، واستبدلت هذا الدور بالوساطة وتقديم المقترحات لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية وضمان الحريات العامة. وهذه مهمة ضئيلة لا تتلاءم مع الدور التاريخي للنخب السياسية في مرحلة التحرر الوطني.