نساء يقلن القاف بلهجة عراق المنشية

بقلم: 

على بال زمن*.. بقلم: صالح مشارقة

سنتعب رؤوسنا كثيرًا في فهم نساء غزة؛ هدوئهن وانفعالهن وفائض غضبهن وفرحتهن. نتذكر عبارة ملكة هولندا التي جردت نساءنا من أمومتهن لأنهن يودعن الأبناء وهم ذاهبون للموت في إحدى مدن إسرائيل.

كيف يمجدن موت الأبناء والأحفاد والأزواج في القتال؟ نساء العالم مشغولات الآن بالتعليم والجسد والصورة، وهن ما زلن لاجئات في غزة. لا مكوى في جهازهن كعرائس ولا عطور. لا يصممن الشقة مع الزوج ولا يخترن ستائر غرفة النوم ولا ألوان غرف الأولاد. ويخفن من إنجاب البنات. وكل ما هنالك بيت صفيح وإبريز كهرباء مكشوف وجدران غير مقصورة وغرفة ضيوف بأثاث صيني مستعمل، وحبلا ملابس؛ واحد للغسيل وآخر خزانة ملابس العائلة. وهي سفرة وحيدة خارج غزة؛ سفرة عن ستين سنة حياة على رمال غزة. سفرة تأتيهن في آخر العمر، يخرجن فيها للحج البائس عبر المعابر والمطارات ويرين كل أنواع الذل والإهانة، ويعدن فرحات بطواقي الأحفاد وشراشف ووجوه مخدات وسجاد أحمر لتغطية الجدران المتهالكة.. يعني ورق حائط غير ذلك الذي تستخدمه ملكة هولندا السابقة. 
أعرف أن العقل الجديد لا يفهمهن، ويسأل: لماذا الملابس السوداء مثلاً، وغطاء الرأس، واللهجة البطيئة الفلاحية، والحواجب غير المحددة، وأطقم الأسنان من عيادات الأونروا، والسمنة، وعدم الفرحة، والخجل من الغرباء، وكثرة المطالب، والغلبة أمام مكاتب الخدمات، والمزاحمة على أبواب السيارات، وعدم الخوف من الموت أو المرض، وترك الأبناء حفاة طوال اليوم خارج المنزل؟
أعرف أن المقارنة قاتلة: نساء العالم في المقاهي، معطرات بانتظار العشاق والخيانات، ونساؤنا في غزة منتظرات لباقي العمر على الشبابيك في وداع الجنائز وفي قول كلمات قليلة لكاميرات الإعلام: "وين حكام العرب.. وين الإسلام".
أعرف أن العقل الجديد سيكون أمام معضلة ثقيلة؛ فهو يرى في المرأة عشيقة وحبيبة، بينما لا وقت للحب هنا في غزة. الحب هنا ترف على ابنة الرجل الذي مات في الغارة، أو شقيقة الثلاثة أسرى التي لا تشتري لنفسها الملابس كي توفر ثمن البيجامات وأبوات الرياضة والسجائر للقابعين في السجون.
في كل المدن، سيسعدون برؤيتهن يقدن السيارت في الصباح ويصعدن سلالم مترو الأنفاق، بينما أخواتنا وبناتنا هنا في غزة، بالكاد قادرات على غسل ملابس الزوج العامل في النفق، أو إعداد وجبة الغداء للابن العائد من مكبات نفايات غزة بعد يوم كامل من جمع الخردة وحت الباطون لاستخراج الإسمنت.
في كل العالم، يدفع الآباء أقساط بناتهم في الجامعات عبر الإنترنت، هنا، بناتنا في غزة يسجلن الساعات في الجامعة ويتوسلن مسؤولة التسجيل انتظار نزول راتب الأب من المصنع المهدوم أو من التاجر المكسور، هنا يوافقن بسرعة على أهمية إدخال الأخ في جامعة خاصة، ويرضين أن يدرسن في جامعة حكومية وعن بعد، بأقساط أقل ومواصلات أقل.
في مدن العالم "الكوزموبوليتان"، تعشق البنت اليابانية أفريقيا، والبنت الأمريكية تنوع أصدقاءها بين فيتنامي وعراقي. وبناتنا المحترمات هنا في غزة يقبلن بابن قريتهن أو مدينتهن المهجرة، غير متطلبات وعفيفات، وكل ما يسمعنه ليلة الزفاف: يـ "ما الزلمة جنا والبنت بنى".
في كل العالم، عندما تتذكر البنات أوطانهن، يعشقن شبانًا يذهبون بعيدًا في الفاشية، وهنا بناتنا وأخواتنا ينشغلن في تطريز قناع المقاتل وشد ملابس الفدائيين حتى لا تظهر أجسادهم عندما يستشهدون في غارات جيش الأمة اليهودية التي لفظها العالم لتنتحر هنا في فلسطين.
أكتب وفي بالي الترف الفكري الكبير لجوليا كرستيفا والتقليعات الجسدية لجوديت باتلر، وكماليات سيمون دي بفوار، والنسوية الليبرالية وزميلتها الماركسية، لا فكر عالميًّا ولا إنسانيًّا قادر على فهم طبقات نسوية نسائنا في غزة، لا فكر ولا عقل يقدر.
أكتب صباح هذا اليوم 22/7/2014 والحرب مشتعلة في غزة، وابنتي تناديني عند المصعد وأنا متسمر أمام فتاة نحيلة من غزة تروي على شاشة التلفزيون أين كان يجلس والدها الشهيد ووصيته عن انتظار إخوتها ولهجتها التي تقول فيها القاف بالعامية الجنوبية، وتشير إلى أنها من بلدتنا التاريخية المهجرة عراق المنشية، التي صارت مستوطنة كبيرة الآن باسم كريات غاد، تصلها صواريخ أطلقها أحفاد العائلات اللاجئة ويكتب عنها الشباب في الفيسبوك أن المقاتلين كتبوا عليها رسائل للبيوت المهدومة قبل ستين عامًا، وسلموا فيها على الصبار والصنوبر وشجر التين الذي ما زال ينتظر عودة الأولاد والبنات من المدرسة المهدومة.
هناك سيكون لنسائنا وبناتنا وأخواتنا مجد وجمال إضافي.

*مقال خاص بزمن برس